دراسات إسلامية

 

عقوبة القصاص في ضوء الفقه الإسلامي

بقلم:  د. رشيد كهوس (*)

 

 

 

يذهب بعض المثقفين اللائكيين إلى اعتبار عقوبة القصاص في الإسلام ثأرا وانتقاما من القاتل ولا تناسب الواقع المعاصر ولا الحضارة المعاصرة، والآية الكريمة التي تدعو إلى القصاص من القاتل على حسب رأيهم- خاصة بزمان النبوة ولم نعد في حاجة إلى تطبيقها، حتى لا نُتّهم من قبل الغرب بالرجعية ومخالفة مواثيق حقوق الإنسان...

     لكن في الحقيقة ليست المسألة كما يظنون جهلا منهم وتجاهلا وعداوة وبغضا لأحكام الدين التي جاءت مراعية لمصالح العباد في الدنيا والآخرة.

     ويمكن نقض آرائهم ورد شبههم بما يأتي:

     - مفهوم القصاص:

     - القصاص: مأخوذ من قص الأثر وهو اتباع، يقول ابن منظور في لسان العرب: «يقال قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئا فشيئا»(1).

     وعرفه الإمام الجرجاني في تعريفاته: «أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل»(2).

     فالقصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع.

     - مشروعية القصاص:

     يقول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يّٰـأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(سورة البقرة: 179).

     يقول الإمام الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب»: «إنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة؛ لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلاً، وفي حق من يراد جعله مقتولاً وفي حق غيرهما أيضاً، أما في حق من يريد أن يكون قاتلاً؛ فلأنه إذا علم أنه لو قَتَلَ قُتِلَ ترك القتل فلا يقتل فيبقى حياً، وأما في حق من يراد جعله مقتولاً؛ فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول، وأما في حق غيرهما؛ فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعاً زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل.

     الوجه الثاني في تفسير الآية: أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك؛ لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ، فكان القصاص نفسه سبباً للحياة من هذا الوجه ، واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مختص بالقصاص الذي هو القتل ، يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك؛ لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سبباً لبقائهما؛ لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضاً فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية؛ لأن الجارح لا يأمن أن تؤدي جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود ، فخوف القصاص حاصل في النفس .

     الوجه الثالث: أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل؛ لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية»(3).

     ولهذا كانت العرب تقول: القتل أنفى للقتل. قتل البعض إحياء للجميع.

     لكن لفظ القرآن الكريم أفصح في التعبير والبيان وأجمع للفوائد: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ).

     وعليه ففي القصاص حياة؛ لأنه إذا عَلِمَ القاتل أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ أمْسَكَ عن القتل وفي ذلك حياة القاتل والمقتول.

     والعقوبات كما يقول أهل العلم: (موانع قبل الفعل زواجر بعده).

     ولذلك فإن الله تعالى رحيم بعباده، شرع لهم ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، شرع لهم ما يحفظ الكليات الخمس: الدين، النفس، العقل، العرض، المال...

     قد يعرف البشر الحكمة من بعض الأحكام وقد يعرفون جزءا منها وقد لا يعرفونها، فالله تعالى شرع لهم ما ينفعهم وإن جهلوا الحكمة من التشريع.

     وإن شرعت الشريعة الإسلامية الغراء القصاص ومع ذلك فقد أحاطت تطبيق هذه العقوبة القاسية بسياج من الضمانات والكثير من الشروط التي تُبعدها عن الخطأ والشّبهة عند تطبيقها، فهناك عدالة القضاء، مع الإقرار بالجريمة، مع شهادة العُدول، مع عدم وجود أي شبهة يمكن أن يستند إليها القاضي إذا لاحت له، لينتقل من عقوبة الإعدام إلى ما بعدها من عقوبات.

     وقتل النفس جريمة كبيرة: قال الله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (سورة المائدة: من الآية 32).

     وقال عز من قائل: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (سورة الإسراء: 33).

     فالأصل في القتل التحريم؛ لكن جواز القتل استثناء مشروط لا يجوز إلا بحق؛ والحق هو شريعة القصاص التي وضعت للحفاظ على سلامة الأرواح؛ وفي الحرب، وفي الحرابة (الحاكم مخير في حكمه على المحاربين بين أمور من بينها القتل: قال الحق جل وعلا: (إِنَّمَا جَزٰؤا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (سورة المائدة: 33)...

     لذلك شرع الله تعالى القصاص: (النفس بالنفس) بمعنى قتل النفس ظلما يواجه بقتلها قصاصا.

     عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله –صلى الله عليه وسلم- عَلَى جَارِيَةٍ ، فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا وَرَضَخَ رَأْسَهَا ، فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَقَدْ أُصْمِتَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَكِ، فُلاَنٌ؟». لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لاَ، قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ لاَ، فَقَالَ «فَفُلاَنٌ؟». لِقَاتِلِهَا فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم- فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ)(4).

     فعقوبة القصاص ليست ثأرا ولا انتقاما ولا حقدا بل هي تطبيق لشرع الله تعالى بشروطها وضوابطها ووسائل إثباتها وإقرارها.

     -كيف تثبت جريمة القتل؟:

     جريمة القتل تثبت بالاعتراف من القاتل، أو بشهادة العدول (شاهدا عدل)، بعد أن تنتفي جميع الشبهات.

     وفي الحادثة الواردة في الحديث النبوي الشريف السابق توفرت فيها جميع الشروط وزيادة:

     - حضر أهل القتيل وهم شهود.

     - حضر مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم رواة الحادثة وشاهدوا الجريمة وهم عدول.

     - اعتراف الجارية وهي في رمقها الأخير بأن اليهودي من قتلها.

     - لم ينكر اليهودي لما أشارت الجارية بأنه قاتلها.

     الحادثة إذن حضرها ثلاثة نفر من بينهم القاتل، وشهد الصحابة وأهل المرأة على أن القاتل هو اليهودي؛ لكن سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم- المرسل رحمة للعالمين، أراد حتى شهادة القتيل وهو في رمقه الأخير، قال لها: «فلان قتلك؟» أي للرجل الأول من النفر الثلاثة، أشارت: لا. ثم قال: «فلان قتلك» أي الرجل الثاني من النفر الثلاثة، فأشارت: أن لا. ثم قال: فلان قتلك أي اليهودي وهو الثالث من النفر الثلاثة فأشارت: نعم.

     وأقول للمخالف الذي يشكك في هذا الحديث النبوي الشريف: الحديث صحيح لا مجال لتكذيبه.. حتى لو قرأت القانون الجنائي المعاصر وكيف تثبت جريمة القتل لوجدت أن النبي – صلى الله عليه وسلم- فعل ما لم يفعله أحد قبله ولا بعده كيف لا وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير... تكفي شهادة العدول، ويكفي اعتراف اليهودي بأنه قاتل الجارية... لكنه – صلى الله عليه وسلم - مع ذلك سأل الجارية عن قاتلها... وبعد ذلك أمر بتنفيذ حكم الله في القصاص...

     - عقوبة القاتل:

     فالقصاص في القتل العمد إلا أن يتنازل أهل القتيل (النفس بالنفس)، والدية في الخطأ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ الله وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (سورة النساء: 92).

     - الرد على منكري القصاص:

     أقول لمن ينكر عقوبة القصاص: كيف تأخذكم الشفقة على القاتل ولا تأخذنا على المقتول!

     ثم ألا ترون معي أن حكم الإعدام أقل ضررا على صاحبه من السجن المؤبد وبخاصة في سجوننا التي تذكر بظلمة القبر، وبمحققين يذكرون بمنكر ونكير، فالإعدام البطيء أشد، (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا).

     والله تعالى هو خالق الناس جميعا، وأرحم الراحمين، هو من شرع القصاص، و«كما تدين تدان» والجزاء من جنس العمل، (وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40).

     وهل نحن أكثر شفقة على الناس من خالقهم! كلا والله ثم كلا...

     - بين الاجتهاد والتقول على الله تعالى:

     إن اللائكيين الذين حاولوا نفي القصاص بحجة الاجتهاد يمكن الرد عليهم بالقول: إن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية هو: «استفراغ الوسع في تحصيل أمر مستلزم للكلفة والمشقة». وبتعريف علماء الأصول: «استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي». وعرفوه كذلك: «حقيقة الاجتهاد استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام : الكتاب والسنة والإجماع والقياس».

     وعلماؤنا الجلة وضعوا شروطا يجب توفرها في المجتهد، كي لا يخوض في هذا العلم من لا علم له، وكي لا يتخذ زورق جهنم ومطية للأهواء والطموحات الشخصية، فاشترطوا أن يكون المجتهد عالما بالقرآن الكريم وعلومه، والسنة النبوية وعلومها، واللغة العربية وعلومها، والعلم بمواضع الاجتهاد وأصول الفقه، ومقاصد الشريعة، والعدالة والتقوى، ومعرفة فروع الفقه وأن يكون المجتهد من أهل الدعوة وممن يحيون بها... والاجتهاد لأهله وفي محله وبضوابطه.

     ويقولون: نجتهد... والقاعدة تقول: «لا اجتهاد مع وجود النص» أي النص الصريح الدلالة، و«لا مساغ للاجتهاد في مورد النص» ونص القصاص قطعي الثبوت والدلالة لا مجال للاجتهاد فيه: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّٰلِمُونَ)(سورة مائدة: 45).

     - شبهة نفي القصاص لكونها لا يقبلها العقل:

     العقل متلقٍ لحقائق الوحي بواسطة القلب، والتفكير حركة قلبية تتدبر الكون للاستدلال على الله وعلى عظمة الخالق.

     فالعقل إما يكون آلة للقلب يخدم تطلعات القلب إلى خالقه والسعي إلى رضاه، وإما يكون آلة للهوى المتأله، أو للنفس الأمارة بالسوء والشهوات الفانية وزهرة الدنيا الزائلة، أو للتأمل، أو لجمع المعلومات والاستنتاجات...

     ويحدث للعقل المصدق للوحي عَوَر إذا عجز عن التعلم من آيات الله الكونية، وترك آلته للإهمال. فيفوته ركب الحياة الدنيا، ويقعد مع الكسالى المتبلدين.

     هذا العقل المقصر في فهمه لرسالة القرآن الذي أخبر بأن الله سخر لنا الكون وأمرنا أن نسير في الأرض ونستعمرها وندافع ونجاهد، وكل ذلك ممتنع إن لم نأخذ بسنن الله في الأسباب والمسببات واستعملنا عقولنا وبذلنا جهودنا...

     ويصيب العقل العمى الكلي لا يبصر معها البصر المعتبر على أفق الأبدية وهو البصر بالله وبأمر الله وبالدار الآخرة وما يسعد الإنسان هنا وهناك وإن كان بصيرا بسبل رخائه المادي في الدنيا.

     يصيب الشلل في الدنيا العقل المؤمن بالله إن أغمض إحدى عينيه وأعرض عن سنن الله في اتخاذ الأسباب والاكتساب في حلبة النظر العلومي الصناعي الجهادي...

     ولذلك فالعقل الصريح يقبل النص الصحيح؛ لأنه لا يتعارض معه؛ لكونه نظر إلى المسألة بمنظار القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

     أما الدول الغربية التي تدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام فتلتزم الصمت على جرائم الإعدام اليومية التي يمارسها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، وتمارسها قوات الاستدمار الأمريكية والبريطانية في العراق....

     - القصاص في العهدين القديم والجديد:

     إن الملل الأرضية تقرر الإعدام مثل حمو رابي..

     وحتى العهد القديم والجديد...ففي العهد القديم سفر التكوين الإصحاح10 الفقرة: 12: «من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا». أي العقوبة بالمثل، قتل فيُقتل.

     وفي العهد الجديد، إنجيل متى، الإصحاح:5 الفقرة:21: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم». أي يستوجب القتل.

     - هدف القصاص في الإسلام:

     إن العقوبة في الإسلام هدفها حفظ المصالح العامة والفردية في المجتمع تلك العقوبات التي تستمد شرعيتها من النصوص القطعية.

     قال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيٰوةٌ يّٰأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (سورة البقرة: 178-179).

     ونزلت الآية الكريمة في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة، فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ بن فلان، وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنزل الله الآية.

     و(المسلمون تتكافأ دماؤهم)(5)، لا فرق بين رجل ولا امرأة ولا عبد ولا حر...

     فإذا قتلت أنثى أثنى أخرى عمدا، فتقتل بها لا تستبدل بأحد أقاربها أو غير ذلك.. فالعقوبة تشمل القاتل وحده فقط، ولا تشمل أقاربه...

     وبعد تلك الآية الكريمة نزل قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّٰلِمُونَ)(سورة المائدة:45). أي فرض عليكم المساواة والمماثلة في القتل والجراحات والديات... تقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر، وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى.

     وقال الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (سورة الإسراء:33).. فمن قتل مظلوما فلوليه أن يطلب القصاص من القاتل، دون أن يتجاوز الحد المشروع كأن ينتقم من أقاربه أو غير ذلك.

     والإسلام يحترم النفس الإنسانية لا يفرق بين نفس المرأة ولا الرجل ولا الطفل، الكل سواسية...

     عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول)(6).

     وعقوبة الإعدام في شريعة الإسلام تختلف عن عقوبة الإعدام في القوانين الوضعية... ولا ننسى أن العقوبات في الإسلام تدرأ بالشبهات، فليس الإسلام متعطشا لقتل الأنفس؛ ولكنه شرع العقوبات والقصاص والحدود حفاظا على سلامة حياة الناس...

     أضف إلى ذلك أن الله تعالى الذي خلق الإنسان ووهَبه الحياة وحافظ عليها هو الذي شرع القصاص منها عندما تعتدي على حياة مماثلة لها.

     وإقامة الحد يشمل جميع المجرمين لا ينفذ على المستضعفين فقط، كما هو الحال في الكثير من الدول العربية التي تحولت إلى مستنقع فاحت رائحته...

     عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ الله، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»(7).

مسك الختام:

     فلا مجال لإلغاء القصاص فهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والأئمة بلا خلاف، وعليه إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين... لا يتغير بتغير الزمان والمكان فكتاب الله تعالى صالح لكل زمان ومكان.. وشريعة الإسلام إلهية المصدر لا يعتريها النقص ولا النسيان، على عكس القوانين الوضعية التي يضعها البشر لأنفسهم، والبشر من طبيعته النقص والنسيان.

     قال الله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْـمَثُلٰتُ)(سورة الرعد: الآية 6) والمثلات من المثال بمعنى القصاص، أي العقوبات مماثلة للذنوب والآثام، والمثلات هي العقوبة الشديدة الفاضحة التي تنزل بالإِنسان فتجعله مثالاً لغيره في الزجر والردع: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)(سورة النحل، الآية: 126)..

*  *  *

الهوامش:

(1)     لسان العرب، مادة: قصص، 7/73.

(2)     التعريفات، باب: قاف، ص225.

(3)     مفاتيح الغيب، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، 5/229.

(4)     صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور، ح4989؛ صحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، ح1672.

(5)     المستدرك على الصحيحين للحاكم، كتاب قسم الفيء، ح، 2/153.

(6)     مصنف ابن أبي شيبة، 6/403. سنن الدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره، ح45.

(7)     متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب ذكر أسامة بن زيد رضي الله عنهما، ح2505. صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب قطع يد السارق الشريف وغيره، ح1688.

 

*  *  *



(*)  أستاذ بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الثاني 1436 هـ = يناير-فبراير 2015م ، العدد : 4 ، السنة : 39